الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فهو الذي أشار إليه الترمذي وقد رواه الإمام أحمد من طرق عن يحيى بن يعمر قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إنا نسافر في الآفاق فنلقي قوما يقولون لا قدر. فقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا لقيتموهم فأخبروهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وأنهم منه برآء (ثلاثا)، ثم إنه أنشأ يحدث: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فذكر من هيئته فقال رسول الله على الله عليه وسلم: " ادنه فدنا. فقال: ادنه فدنا. فقال: ادنه فدنا، حتى كادت ركبتاه تمسان ركبتيه، فقال: يا رسول الله، أخبرني ما الإيمان أو عن الإيمان. قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر. قال سفيان: أراه قال: خيره وشره. قال: فما الإسلام؟ قال: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان وغسل من الجنابة، كل ذلك قال: صدقت صدقت صدقت. قال القوم: ما رأينا رجلا أشد توقيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا كأنه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: يا رسول الله، أخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله أو تعبده كأنك تراه فإلا تراه فإنه يراك. كل ذلك نقول: ما رأينا رجلا أشد توقيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا. فيقول: صدقت صدقت. قال: أخبرني عن الساعة. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال فقال: صدقت. قال ذلك مرارا: ما رأينا رجلا أشد توقيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا. ثم ولى. قال سفيان: فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التمسوه، فلم يجدوه. قال: هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم. ما أتانا في صورة إلا عرفته غير هذه الصورة. وإسناده: حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن يحيى بن يعمر.....إلخ. وفي رواية قالك: قلت لابن عمر إن عندنا رجالا يزعمون أن الأمر بأيديهم فإن شاءوا عملوا وإن شاءوا لم يعملوا. فقال: أخبرهم أني منهم بريء وأنهم منا برآء. ثم قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ما الإسلام؟ فقال: تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم. قال: صدقت. قال: فما الإحسان؟ قال: تخشى الله كأنك تراه فإن لا تك تراه فإنه يراك. قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال: نعم. قال: صدقت. قال: فما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث من بعد الموت والجنة والنار والقدر كله. قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم. قال: صدقت. زاد في رواية: وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية. وسند هذه الرواية: حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا علي بن زيد عن يحيي بن يعمر قلت لابن عمر......إلخ. وفي أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. فقال له جبريل عليه السلام: صدقت. قال: فتعجبنا منه يسأله ويصدقه! قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك جبريل أتاكم يعلمكم معالم دينكم. وسند هذه الرواية: حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا وكيع حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر..... إلخ. ورواية عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري قال: لقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فذكرنا القدر وما يقولون فيه، فقال لنا: إذا رجعتم إليهم فقولوا لهم: إن ابن عمر منكم بريء وأنتم منه برآء (ثلاث مرار) ثم قال: أخبرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنهم بينما هم جلوس أو قعود عند النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يمشي حسن الوجه حسن الشعر عليه ثياب بيض فنظر القوم بعضهم إلى بعض ما نعرف هذا وما هذا بصاحب سفر. ثم قال: يا رسول الله آتيك؟ قال: نعم. فجاء فوضع ركبتيه عند ركبتيه ويديه على فخديه، وساق الحديث بنحو ما تقدم في الصحيح والسنن، وزاد آخره سؤال الرجل من جهينة أو مزينة كما تقدم في رواية أبي داود. الحديث به عن أبي هريرة. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عنده علم الساعة) ثم أدبر فقال: ردوه فلم يروا شيئا. فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم. قال أبو عبد الله: جعل ذلك كله من الإيمان، وترجم عليه: " باب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له ". ثم قال: جاء جبريل يعلمكم دينكم، فجعل ذلك كله دينا. وأخرجه في تفسير سورة لقمان فقال: باب قوله الله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة) حدثني إسحاق عن جرير عن أبي حيان الحديث. وفيه: إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ وفيه: قال يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كان الحفاة العراة رءوس الناس فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) ثم انصرف الرجل فقال: ردوا علي. فأخذوا ليردوا فلم يروا شيئا، فقال: هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم. ورواه مسلم فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعا عن ابن علية قال زهير: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان... الحديث وزاد: وإذا تطاول رعاة البهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) قال: ثم أدبر.... إلخ. وقال حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا محمد بن بشر حدثنا أبو حيان التيمي بهذا الإسناد مثله، غير أن في روايته: " إذا ولدت الأمة بعلها " يعني السراري. وقال: حدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير عن عمارة وهو ابن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني. فهابوه أن يسألوه. فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان. قال: صدقت. قال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله. قال: صدقت. قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إلا تكن تراه فإنه يراك. قال: صدقت. قال: يا رسول الله، متى تقوم الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أشراطها، إذا رأيت الأمة تلد ربها فذاك من أشراطها، وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها. وإذا رأيت رعاء البهم يتطالون في البنيان فذاك من أشراطها في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) قال: ثم قام الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوه علي. فالتمس فلم يجدوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا. وأشار إليه الترمذي في باب حديث ابن عمر عن عمر. ورواه ابن ماجه بإسناد مسلم ولفظه إلى آخر الآية. ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة بن عمر بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه.... إلخ. وفيه: " وإذا كانت العراة الحفاة الجفاة ". الحديث به عنه وعن أبي ذر وأما حديثه مع أبي ذر رضي الله عنهما فقال النسائي في كتاب الإيمان من مجتبى سننه: صفة الإيمان والإسلام. أخبرنا محمد بن قدامة عن جرير عن أبي فروة عن أبي زرعة عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه، وإنا لجلوس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها وأطيب الناس ريحا كأن ثيابه لم يمسها دنس حتى سلم في طرف البساط فقال: السلام عليك يا محمد. فرد عليه السلام قال: أدنو يا محمد؟ قال: ادنه فما زال يقول أدنو مرارا ويقول له أدن حتى وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا محمد، أخبرني ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان. قال: إذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: نعم. قال: صدقت. فلما سمعنا قول الرجل " صدقت " أنكرنا. قال: يا محمد، أخبرني ما الإيمان؟ قال: الإيمان بالله وملائكته والكتاب والنبيين وتؤمن بالقدر. قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: صدقت. قال: يا محمد، أخبرني ما الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: صدقت. قال: يا محمد، أخبرني متى الساعة؟ قال: فنكس فلم يجبه شيئا، ثم أعاد فلم يجبه شيئا ثم أعاد فلم يجبه شيئا، ورفع رأسه فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن لها علامات تعرف بها، إذا رأيت الرعاء البهم يتطاولون في البنيان، ورأيت الحفاة العراة ملوك الأرض، ورأيت الأمة تلد ربها في خمس لا يعلمها إلا الله: (إن الله عنده علم الساعة) إلى قوله: (إن الله عليم خبير) ثم قال: لا والذي بعث محمدا بالحق هاديا وبشيرا ما كنت بأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه. وقال أبو داود في باب القدر من كتاب السنة من سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن فروة عن أبي زرعة بن عمر بن جرير عن أبي ذر وأبي هريرة قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. وفيه: فبنينا له دكانا من طين فجلس عليه وكنا نجلس بجبنبتيه. وذكر نحو هذا الخبر فأقبل رجل فذكر هيئته حتى سلم من طرف السماط فقال: السلام عليك يا محمد. قال: فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم. فحاصل طرق حديث أبي هريرة وحده ومع أبي ذر رضي الله عنهما أبو زرعة عن أبي هريرة وعنه أبو حيان وأبو فروة وعمارة بن القعقاع، وعن أبي حيان إسماعيل بن إبراهيم بن علية وجرير ومحمد بن بشر، وعن إسماعيل مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأحمد بن حنبل، وعن جرير إسحاق وزهير بن حرب ومحمد بن قدامة وعثمان بن أبي شيبة وعن محمد بن بشر بن نمير، وعن كل من عمارة وأبي فروة جرير. والله أعلم. الحديث به عن ابن عباس وأما حديث ابن عباس: فقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد حدثنا شهر حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فجاء جبريل عليه السلام فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا كفيه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، حدثني ما الإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تسلم وجهك لله وتشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. قال: إذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: إذا فعلت ذلك فقد أسلمت. قال: يا رسول الله، فحدثني ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين وتؤمن بالموت وبالحياة بعد الموت وتؤمن بالجنة والنار والحساب والميزان وتؤمن بالقدر كله خيره وشره. قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال: إذا فعلت ذلك فقد آمنت. قال: يا رسول الله، حدثني عن الإحسان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه، فإنك إن لم تراه فإنه يراك. قال: يا رسول الله، فحدثني متي الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك. قال: أجل يا رسول الله فحدثني. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت الأمة ولدت ربتها أو ربها، ورأيت أصحاب الشاء تطاولوا بالبنيان ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رءوس الناس فذلك من معالم الساعة وأشراطها. قال: يا رسول الله، ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال: العرب. وحسنه الحافظ العسقلاني. الحديث به عن أبي عامر وأما حديث أبي عامر فقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب قال: حدثنا عبد الله بن أبي حسين حدثنا شهر بن حوشب عن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في مجلس فيه أصحابه جاءه جبريل عليه السلام في غير صورته يحسبه رجلا من المسلمين فسلم عليه فرد عليه السلام، ثم وضع جبريل يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بنحو حديث عمر بن الخطاب. وفيه: فلما ولى؛ أي السائل فلما لم نر طريقه بعد قال؛ أي النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله ثلاثا. هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم. وحسنه الحافظ أيضا وهو من مفردات أحمد رحمه الله تعالى. وأما الأحاديث التي قبله فقد خرجها غير من ذكرنا، وإنما اقتصرنا على روايات الأمهات لشهرتها، وفي الباب عن جماعة من الصحابة غير من ذكر منهم طلحة بن عبيد الله وأنس بن مالك وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم، وسنذكر إن شاء الله تعالى ما تيسر من النصوص في كل مسألة من مسائله عند ذكرها في المتن، فنقول وبالله التوفيق.
اعلم بأن الدين قول وعمل *** فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل (اعلم) يا أخي وفقني الله وإياك والمسلمين (بأن الدين) الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لأهل سماواته وأرضه وأمر أن لا يعبد إلا به، ولا يقبل من أحد سواه، ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه، ولا أحسن دينا ممن التزمه واتبعه هو (قول) أي بالقلب واللسان (وعمل) أي بالقلب واللسان والجوارح. فهذه أربعة أشياء جامعة لأمور دين الإسلام: الأول: قول القلب وهو تصديقه وإيقانه، قال الله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم مايشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين) (الزمر: 33- 34) وقال تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) (الأنعام: 75) وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) (الحجرات: 15). صدقوا ثم لم يشكوا. وفي حديث الدرجات العلى: " بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ". وقال تعالى: (والذين يؤمنون بالغيب) (البقرة: 3) وقال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم) (البقرة: 136) الآيات. وقال تعالى: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) (الشورى: 15). وغير ذلك من الآيات. وفي حديث الشفاعة: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة " الحديث. وفي الحديث الآخر: " فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان ". وقال تعالى في المكذبين: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) (يس: 10) وقال تعالى في المرتابين الشاكين: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) (آل عمران: 167) وقال فيهم: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) (المائدة: 41) وقال تعالى فيهم: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) (المنافقون: 1) أي في قولهم نشهد؛ أي كذبوا، إنهم لا يشهدون بذلك بقلوبهم، إنما هو بأنفسهم تقية ونفاقا ومخادعة. الثاني: قول اللسان وهو النطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والإقرار بلوازمها. قال الله: (وقولوا آمنا) (البقرة: 136). (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق) (القصص: 53). (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) (الشورى: 15)، وقال تعالى: (إلا من شهد بالحق) (الزخرف: 86)، (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (الأحقاف: 13)، وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " وما في معناه مما سنذكر وما لا نذكر. الثالث: عمل القلب، وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والإقبال على الله عز وجل والتوكل عليه ولوازم ذلك وتوابعه، قال الله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (الأنعام: 52)، (وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) (الليل: 20)، (إنما نطعمكم لوجه الله) (الإنسان: 9)، (الذين إذ ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) (الحج: 35)، (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) (المؤمنون: 60)، (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (الزمر: 23)، (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الرعد: 28)، وقال تعالى: (ألا لله الدين الخالص) (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (قل الله أعبد مخلصا له ديني). وقال تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله) (يحبهم ويحبونه) (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون). وقال تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) (النساء: 125) ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) (لقمان: 22) (فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) (الحج: 34) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء: 65)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". وقال صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ". وقد تقدم جملة من نصوص الإخلاص في الكلام على لا إله إلا الله، وتقدم هناك بيانه وما ينافيه من الشرك الأكبر وما ينافي كماله من الشرك الأصغر، وقال صلى الله عليه وسلم: " أحبوا الله من كل قلوبكم " وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " الحديث. وقال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ". وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربني إلى حبك ". وقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين ". وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ". وهذا غاية الانقياد إذا لم يكن له هوى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد تقدمت النصوص في التوكل والخوف والرجاء والخشية والخضوع وغير ذلك من أعمال القلوب. الرابع: عمل اللسان والجوارح، فعمل اللسان ما لا يؤدى إلا به، كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار وغير ذلك، وعمل الجوارح مما لا يؤدى إلا بها، مثل القيام والركوع والسجود، والمشي في مرضاة الله كنقل الخطا إلى المسجد وإلي الحج والجهاد في سبيل الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما يشمله حديث شعب الإيمان. قال الله تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) (الرعد: 22) الآيات. وقال تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته) (الكهف: 27) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) (الأحزاب: 41) وقال تعالى: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) (الأعراف: 205) الآيات. وقال تعالى: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) (الإسراء: 111) وقال تعالى: (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) (الكهف: 46) وهي: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". وقال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) (الأعراف: 55) الآيات. وقال تعالى: (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) (المزمل: 20) وقال تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) (آل عمران: 191) الآيات. وقال تعالى: (وقوموا لله قانتين) (البقرة: 238) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده) (الحج: 77- 78) الآيات. وقال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) (الفرقان: 63- 64) الآيات. وقال تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) (الزمر: 9) وقال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) (التوبة: 111- 112). والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها، وإنما المقصود تقرير هذه الأمور من أصول الدين، فإذا حققت هذه الأمور الأربعة تحقيقا بالغا وعرفت ما يراد بها معرفة تامة وفهمت فهما واضحا ثم أمعنت النظر في أضدادها ونواقضها تبين لك أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة: كفر جهل وتكذيب. وكفر جحود. وكفر عناد واستكبار. وكفر نفاق. فأحدها يخرج من الملة بالكلية، وإن اجتمت في شخص فظلمات بعضها فوق بعض والعياذ بالله من ذلك؛ لأنها إما أن تنتفي هذه الأمور كلها- قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح- أو ينتفي بعضها، فإن انتفت كلها اجتمع أنواع الكفر غير النفاق، قال الله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) (البقرة: 6- 7). وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق فكفر الجهل والتكذيب، قال الله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله) (يونس: 39) وقال تعالى: (أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون) (النمل: 84). وإن كتم الحق مع العلم بصدقه فكفر الجحود والكتمان، قال الله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) (النمل: 14) وقال تعالى: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) (البقرة: 89) وقال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) (البقرة: 146- 147). وإن انتفى عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة والإذغان مع انقياد الجوارح الظاهرة فكفر نفاق سواء وجد التصديق المطلق أو انتفى، وسواء انتفى بتكذيب أو شك، قال الله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)- إلى قوله- (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير) (البقرة 8- 20). وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان فكفر عناد واستكبار، ككفر إبليس وكفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه، أمثال حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم، وكفر من ترك الصلاة عنادا واستكبارا، ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ". ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا وباطنا بلا شك، لم يعنوا مجرد التصديق، فإن إبليس لم يكذب في أمر الله تعالى له بالسجود وإنما أبى عن الانقياد كفرا واستكبارا، واليهود كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه، وفرعون كان يعتقد صدق موسى ولم ينفذ بل جحد بآيات الله ظلما وعلوا، فأين هذا من تصديق من قال الله تعالى فيه: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (الزمر: 33) الآيات. وأين تصديق من قال الله تعالى فيهم: (قالوا سمعنا وعصينا) (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) (البقرة: 76) من تصديق من قالوا (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) (البقرة: 285) والله الموفق. كفاك ما قد قاله الرسول *** إذ جاءه يسأله جبريل على مراتب ثلاث فصله *** جاءت على جميعه مشتمله الإسلام والإيمان والإحسان *** والكل مبني على أركان. (كفاك) أيها الطالب الحق (ما قد قال الرسول) محمد صلى الله عليه وسلم (إذ) حين جاءه يسأله عن مراتب الدين وشرائعه (جبريل) عليه السلام كما في الأحاديث السابقة عن جماعة من الصحابة على مراتب ثلاث فصله في تلك الأجوبة الصريحة، (جاءت) أي الثلاث المراتب (على جميعه) أي على جميع الدين (مشتمله) ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأمور " الدين " فقال: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ".
(الإسلام) بالخفض بدل مفصل من مجمل مراتب، ويقال له بدل بعض من كل، وما بعده معطوفان عليه. هذه هي المرتبة الأولى في حديث عمر وما وافق لفظه. والإسلام لغة: الانقياد والإذعان، وأما في الشريعة فلإطلاقه حالتان: (الحالة الأولى): أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاده وأقواله وأفعاله، كقوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران: 19)، وقوله تعالى: (ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة: 3)، وقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (آل عمران: 85) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) (البقرة: 208) أي في كافة شرائعه، ونحو ذلك من الآيات. وكقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله معاوية بن حيدة: ما الإسلام؟ قال: " أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت " الحديث. وفي حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: " أن يسلم قلبك لله عز وجل وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك ". قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: " الإيمان ". قال: وما الإيمان؟ قال: " تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ". فجعل صلى الله عليه وسلم الإيمان من الإسلام وهو أفضله، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها " الحديث. فإن الانقياد ظاهرا بدون إيمان لا يكون حسن إسلام بل هو النفاق، فكيف تكتب له حسنات أو تمحى عنه سيئات؟ ونحو ذلك من الأحاديث. (الحالة الثانية): أن يطلق مقترنا بالاعتقاد، فهو حينئذ يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة كقوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات: 14) الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له سعيد رضي الله عنه: ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال صلى الله عليه وسلم: " أو مسلم " يعني أنك لم تطلع على إيمانه، وإنما اطلعت على إسلامه من الأعمال الظاهرة. وفي رواية النسائي: " لا تقل مؤمن وقل مسلم "، وكحديث عمر هذا، وغير ذلك من الآيات والأحاديث. مرتبة الإيمان (والإيمان) هذه المرتبة الثانية في الحديث المذكور، والإيمان لغة: التصديق، قال إخوة يوسف لأبيهم: (وما أنت بمؤمن لما) (يوسف: 17)، ويقول بمصدق، وأما في الشريعة فلإطلاقه حالتان: (الحالة الأولى): أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله، كقوله عز وجل: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) (البقرة: 257) وقوله: (والله ولي المؤمنين) (آل عمران: 68) وقوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) (الحديد: 16) وقوله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (إبراهيم: 11) وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) (المائدة: 23) وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ". ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطنا وظاهرا في قوله عز وجل: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) (الأنفال: 2- 4) وقوله عز وجل: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) (النور: 62) وقوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) (السجدة: 15- 17) وفسرهم بمن اتصف بذلك كله في قوله عز وجل: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) (البقرة: 1- 5) وفي قوله عز وجل: (سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) (آل عمران: 133- 136) وفي قوله عز وجل: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) (الأعراف: 156- 157) وفي قوله عز وجل: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) (المؤمنون: 1- 11) وفي قوله عز وجل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم وبالآخرة هم يوقنون) (النمل: 1- 3) وغيرها من الآيات. وقد فسر الله تعالى الإيمان بذلك كله في قوله تعالى: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (البقرة: 177). وروى ابن أبي حاتم أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) (البقرة: 177) إلى آخر الآية. ثم سأله أيضا، فتلاها عليه، ثم سأله فقال: " إذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك ". رواه المسعودي بنحوه، وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله في حديث وفد عبد القيس في الصحيحين وغيرهما فقال: " آمركم بالإيمان بالله وحده " قال: " أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وأن تؤدوا من المغنم الخمس ". وقد جعل صلى الله عليه وسلم صيام رمضان إيمانا واحتسابا من الإيمان، وكذا قيام ليلة القدر، وكذا أداء الأمانة، وكذا الجهاد والحج واتباع الجنائز وغير ذلك. وفي الصحيحين: " الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ". وهذه الشعب المذكورة قد جاءت في القرآن والسنة في مواضع متفرقه، منها ما هو من قول القلب وعمله، ومنها ما هو من قول اللسان، ومنها ما هو من عمل الجوارح. ولما كانت الصلاة جامعة لقول القلب وعمله وقول اللسان وعمله وعمل الجوارح، سماها الله تعالى إيمانا في قول الله عز وجل: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) (البقرة: 143) يعني صلاتكم، كما يعلم من سبب نزول الآية، وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن يزيد: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به. فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بالغيب، ثم قرأ: (آلم ذلك الكتاب) إلى قوله: (المفلحون) (البقرة: 1- 5) والآيات والأحاديث في هذا الباب يطول ذكرها، وإنما أشرنا إلى طرف منها يدل على ما وراءه وبالله التوفيق. وهذا المعنى هو الذي قصده السلف الصالح بقولهم رحمهم الله تعالى: إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وإن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان. وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم. وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا، وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولا محدثا ممن سمى لنا سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، والنخعي، والزهري، وإبراهيم، ويحيى بن أبي كثير، والثوري، والأوزاعي، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. قال الثوري: هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره. وقال الأوزاعي: كان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: أما بعد، فإن الإيمان فرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. وهذا المعنى هو الذي أراد البخاري إثباته في كتاب الإيمان، وعليه بوب أبوابه كلها فقال: " باب أمور الإيمان " و " باب الصلاة من الإيمان " و " باب الزكاة من الإيمان " و " باب الجهاد من الإيمان " و " باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان " و " باب الحياء من الإيمان " و " باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان " و " باب اتباع الجنائز من الإيمان " و " باب أداء الخمس من الإيمان " وسائر أبوابه. وكذلك صنع النسائي في المجتبى، وبوب الترمذي على حديث وفد عبد القيس: " باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان " وكلام أئمة الحديث وتراجمهم في كتبهم يطول ذكره وهو معلوم مشهور، ومما قصدوه بذلك الرد على أهل البدع ممن قال هو مجرد التصديق فقط كابن الراوندي ومن وافقه من المعتزلة وغيرهم، إذ على هذا القول يكون اليهود الذين أقروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستيقنوها ولم يتبعوه مؤمنين بذلك، وقد نفى الله الإيمان عنهم. وقال جهم بن صفوان وأتباعه: هو المعرفة بالله فقط. وعلى هذا القول ليس على وجه الأرض كافرا بالكلية، إذ لا يجعل الخالق سبحانه أحد. وما أحسن ما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله في نونيته الكافية الشافية: قالوا وإقرار العباد بأنه *** خلاقهم هو منتهى الإيمان والناس من الإيمان شيء واحد *** كالمشط عند تماثل الأسنان فاسأل أبا جهل وشيعته ومن *** والاهمو من عابدي الأوثان وسل اليهود وكل أقلف مشرك *** عبد المسيح مقبل الصلبان واسأل ثمود وعاد بل سل قبلهم *** أعداء نوح أمة الطوفان واسأل أبا الجن اللعين أتعرف ال *** خلاق أم أصبحت ذا نكران واسأل شرار الخلق وأقبح أمة *** لوطية هم ناكحو الذكران واسأل كذاك إمام كل معطل *** فرعون مع قارون مع هامان هل كان فيهم منكر للخالق ال *** رب العظيم مكون الأكوان فليبشروا ما فيهموا من كافر *** هم عند جهم كاملو الإيمان وقالت المرجئه والكرامية: الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب، فيكون المنافقون على هذا مؤمنين، وقد قال تعالى فيهم: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله) إلى قوله: (وتزهق أنفسهم وهم كافرون) وغير ذلك من الآيات، وهم قد نطقوا بالشهادتين بألسنتهم، فقط وكذبهم الله عز وجل في دعواهم في غير موضع من القرآن. وقال آخرون: التصديق بالجنان والإقرار باللسان. وهذا القول مخرج لأركان الإسلام الظاهرة المذكورة في حديث جبريل، وهو ظاهر البطلان. وذهب الخوارج والعلاف ومن وافقهم إلى أنه الطاعة بأسرها فرضا كانت أو نفلا، وهذا القول مصادم لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم لوفود العرب السائلين عن الإسلام والإيمان. وكل ما يقول له السائل في فريضة: هل على غيرها؟ قال: " لا، إلا أن تطوع شيئا ". وذهب الجبائي وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه الطاعات المفروضة من الأفعال والتروك دون النوافل. وهذا أيضا يدخل المنافق في الإيمان وقد نفاه الله عنهم. وقال الباقون منهم: العمل والنطق والاعتقاد والفرق بين هذا وبين قول السلف الصالح أن السلف لم يجعلوا كل الأعمال شرطا في الصحة، بل جعلوا كثيرا منها شرطا في الكمال كما قال عمر بن عبد العزيز فيها: من استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. والمعتزلة جعلوها كلها شرطا في الصحة. والله أعلم. و(الحالة الثانية): أن يطلق الإيمان مقرونا بالإسلام، وحيئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل هذا وما في معناه، وكما في قول الله عز وجل: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) (النساء: 57) في غير ما موضع من كتابه، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الجنازة: " اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان "، وذلك أن الأعمال بالجوارح، وإنما يتمكن منها في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير قول القلب وعمله. وكحديث أنس عند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب ". والحاصل أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، بل كل منهما على انفراده يشمل الدين كله، وإن فرق بين الاسمين كان الفرق بينهما بما في هذا الحديث الجليل. والمجموع مع الإحسان هو الدين كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله دينا، وبهذا يحصل الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث التي فيها تفسير الإيمان بالإسلام والإسلام بالإيمان، وبذلك جمع بينه وبينهما أهل العلم. قال ابن رجب رحمه الله: وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون الإيمان فإنه يتضح بتقرير أصل، وهو أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض المسميات، والاسم المقرون به دالا على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده ودل الآخر على الباقي. قال: وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة. قال أبو بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل: قال كثير من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض الله تعالى على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضموما إلى الآخر، فقيل المؤمنون والمسلمون جميعا مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر، وإذا ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم. وقد ذكر هذا المعنى أيضا الخطابي في كتابه " معالم السنن " وتبعه عليه جماعة من العلماء من بعده. قلت: كلام الخطابي الذي أشار إليه ابن رجب ذكره النووي في شرح مسلم قال: قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق رحمه الله تعالى في كتابه " معالم السنن ": ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. واحتج بالآية؛ يعني قوله عز وجل: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات: 14). وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (الذاريات: 35- 36) قال الخطابي: وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين، ورد الآخر منهما على المتقدم وصنف كتابا يبلغ عدد أوراقه المئين. قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف شيء منها. وأصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، وقد يكون مصدقا في الباطن غير منقاد في الظاهر. قلت: ما رواه الخطابي عن الزهري أنه قال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، هذا عندي فيه نظر، فإنه غير قيم المبنى ولا واضح المعنى، والزهري إمام عظيم من كبار حملة الشريعة لا يجهل مثل هذا، وليست هذه العبارة محفوظة عنه من وجه يصح بهذه الحروف، فإن صح النقل عنه ففي الكلام تصحيف وإسقاط لعل الصواب فيه هكذا: الإسلام الكلمة والإيمان والعمل، فسقطت الواو العاطفة للعمل على الإيمان، وهذا متعين لموافقته قول أهل السنة قاطبة أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل. والزهري من أكبر أئمتهم وقد تقدم قوله معهم فيما روى الشافعي عنهم رحمهم الله تعالى، ويكون عنى بالإسلام الدين كله كما عنى غيره بالإيمان الدين كله، ومما يدل على ذلك استدلاله بالآية المذكورة، فإنه لا يستقيم إلا على هذا ولا يستقيم على معنى الأول لإهمال الاعتقاد فيه الموجود في قوله تعالى: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات: 14) الآية. وأما قوله: وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، فهذا إن أراد بذلك الغير من أهل السنة فهم لم يجعلوهما شيئا واحدا إلا عند الانفراد وعدم الاقتران لشمول أحدهما معنى الآخر كما قدمنا، وأما عند اقتران أحدهما بالآخر ففرقوا بينهما بما فرق به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام. وإن أراد من أهل البدع فإطلاق التسوية بينهما والاتحاد في كل حال من الأحوال هو رأي المعتزلة، وهم المحتجون على ذلك بآيتي الذاريات، وهو احتجاج ضعيف جدا؛ لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين، وعند أهل السنة أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتفق الاسمان هاهنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال والله أعلم. وقال الخطابي رحمه الله أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون شعبة " في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أعلى وأدنى، والاسم يتعلق ببعضهما كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه وتستوفي جملة أجزائه، كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم يتعلق ببعضهما، والحقيقة تقتضي جميع أجزائهما وتستوفيها، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " الحياء شعبة من الإيمان ". وفيه إثبات التفاصيل في الإيمان وتباين المؤمنين في درجاته. انتهى. وما أحسن ما قال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله تعالى في تفسير سورة البقرة لما ذكر هذا الحديث عند قوله عز وجل: (الذين يؤمنون بالغيب) (البقرة: 3) الآيات. قال: فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الإسلام في هذا الحديث اسما لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال: " ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ". انتهى. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسلة واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره " قال: هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والصوم والحج لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظهما، وبقيامها به يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله. ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ومقويات ومتممات وحافظات، ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة؛ لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكل منه، ولايستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "، واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات فإن ذلك كله استسلام، قال: فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. قال: وهذا تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لمذهب جماهير العلماء أهل الحديث وغيرهم. انتهى. وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في الكلام على هذا الحديث: قد تقدم أن الأعمال تدخل في مسمى الإسلام ومسمى الإيمان أيضا، وذكرنا ما يدخل في ذلك من أعمال الجوارح الظاهرة ويدخل في مسماها أيضا أعمال الجوارح الباطنة، فيدخل في أعمال الإسلام إخلاص الدين لله تعالى والنصح له ولعباده وسلامة القلب لهم من الغش والحسد والحقد وتوابع ذلك من أنواع الأذى، ويدخل في مسمى الإيمان وجل القلوب من ذكر الله عز وجل وخشوعها عند سماع ذكره وكتابه وزيادة الإيمان بذلك، وتحقيق التوكل على الله تعالى عز وجل، وخوف الله سرا وعلانية، والرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، واختيار تلف النفوس بأعظم أنواع الآلام على الكفر، واستشعار قرب الله من العبد ودوام استحضاره، وإيثار محبة الله ورسوله على محبة ما سواهما، والحب في الله والبغض فيه والعطاء له والمنع له، وأن يكون جميع الحركات والسكنات له، وسماحة النفوس بالطاعة المالية والبدنية، والاستبشار بعمل الحسنات والفرح بها، والمساءة بعمل السيئات والحزن عليها، وإيثار المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم وكثرة الحياء وحسن الخلق ومحبة ما يحبه لنفسه لإخوانه المؤمنين ومواساة المؤمنين خصوصا الجيران، ومعاضدة المؤمنين ومناصرتهم والحزن بما يحزنهم. ثم ساق من النصوص في ذلك جملة وافية قال: والرضا بربوبية الله تعالى تتضمن الرضا بعبادته وحده لا شريك له، والرضا بتدبيره للعبد واختياره له، والرضا بالإسلام دينا يتضمن اختياره على سائر الأديان، والراض بمحمد صلى الله عليه سلم رسولا يتضمن الرضا بجميع ما جاء به من عند الله وقبول ذلك بالتسليم والانشراح، كما قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء: 65). انتهى. ونصوص الكتاب والسنة وأقوال أئمة الدين- سلفا وخلفا- في هذا الباب يطول ذكرها. ثم اعلم يا أخي أرشدنا الله وإياك أن التزام الدين الذي يكون به النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة وبه يفوز العبد بالجنة ويزحزح عن النار، إنما هو ما كان على الحقيقة في كل ما ذكر في حديث جبريل وما في معناه من الآيات والأحاديث. وما لم يكن منه على الحقيقة ولم يظهر منه ما يناقضه أجريت عليه أحكام المسلمين في الدنيا ووكلت سريرته إلى الله تعالى. قال الله عز وجل: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (التوبة: 11) وفي الآية الأخرى: (فإخوانكم في الدين) وغيرها من الآيات. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة في قتله الجهني بعد أن قال لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقال لا إله إلا الله وقتلته؟! ". قال: قلت يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح. قال: " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ". الحديث بطوله في الصحيحين من طرق بألفاظ، وفي بعضها: فقال: يا رسول الله، استغفر لي. قال: " وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ ". ولما أن استأذنه عمر رضي الله عنه في قتل الرجل الذي انتقد عليه حكمه صلى الله عليه وسلم في قسمه الذهيبة قال: " معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ". وقال له خالد بن الوليد رضي الله عنه فيه: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: " لعله أن يكون يصلي " قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ". الحديث في الصحيحين أيضا من طرق بألفاظ. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ". وفي رواية عن أنس نفسه، وله حكم المرفوع- بل قد رفعه النسائي كما سيأتي -: " من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم " ورواه أبو داود في الجهاد بلفظ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا يحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين "، وفي رواية: " أمرت أن أقاتل المشركين بمعناه. ورواه النسائي في تحريم الدم ولفظه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماوهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ". وفيه قول ميمون بن سياه لأنس بن مالك: يا أبا حمزة، ما يحرم دم المسلم وماله؟ فقال: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين. ورفعه في كتاب الإيمان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم " ورواه الترمذي أيضا. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل ". وفي موطأ مالك ومسند أحمد بسند جيد عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " فقال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أليس يشهد أن محمدا رسول الله؟ " قال: بلى يا رسول الله. قال: " أليس يصلي؟ " قال: بلى يا رسول الله، ولا صلاة له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ". وفي الباب عن جماعة من الصحابة أحاديث من الصحاح والحسان، وفيما ذكرنا كفاية. وأمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن بالإعراض عن المنافقين في غير ما موضع، مع إخباره بصفاتهم وتعريفه بسيماهم وعلاماتهم، ولم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم، وأجرى عليهم في الدنيا أحكام المسلمين الظاهرة، وكانوا يخرجون معه للحج والجهاد والصلاة وغير ذلك، ويقيم الحدود عليهم، غير أنه نهى عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم. والله أعلم.
(والإحسان) هذه المرتبة الثالثة: من مراتب الدين في هذا الحديث. والإحسان لغة: إجادة العمل وإتقانه وإخلاصه. وفي الشريعة: هو ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وسيأتي إن شاء الله تعالى بحثه والنصوص فيه عند ذكره في آخر هذا الفصل. والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام هنا بالأقوال والأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأقوال والأعمال الباطنة، والإحسان هو تحسين الظاهر والباطن ومجموع ذلك هو الدين، والكل من هذه المراتب مبني على أركان لا قوام له إلا بقيامها، وسنتكلم على كل منها إجمالا وتفصيلا، ونحيل ما قدم بيانه منها على موضعه إن شاء الله.
|